الرئيسية » قسم المرأة » مدونة المرأة » قبل أن أصبح عُمانية

قبل أن أصبح عُمانية

في عام ١٩٩٤ عادت والدتي التي تحمل الجنسية العُمانية مع إخوتها من تنزانيا إلى عُمان بحثا عن حياة أفضل لنا. ثم لحقت بها مع بقية إخوتي عام ١٩٩٦ وكانت أعمارنا صغيرة بهدف الحصول على التعليم الجيد. لم يكن والدي يحمل الجنسية العُمانية، وكذلك أنا وإخوتي، لكن لم نتوقع أن يطول الأمر كثيرا لحين حصوله عليها، بعد أن تقدم بالطلب، كون أن أصوله عُمانية. خصوصا وأن شقيقه كان قد حصل على الجنسية العُمانية قبله. وبالتالي لم يكن أمام والدي أي خيار آخر سوى البقاء في تنزانيا لكي يتابع أعماله وتجارته الخاصة بينما انتقلنا نحن للعيش مع والدتنا في عُمان.


لكن طال الموضوع وبقي على حاله لسنوات طويلة. غير أن والدي لم يعرف اليأس وكان دائم المتابعة والمراجعة لوزارة الداخلية دون جدوى. وعندما يكون هناك جديد فكان الرفض هو الرد ثم يعود إلى تقديم الطلب من جديد. بقينا على هذه الحال حتى أصبحت على وشك إنهاء دراستي الثانوية العامة (الدبلوم العام).


طوال سنوات الدراسة، ورغم إحساسي العالي بالانتماء لهذا الوطن، كان ينتابني شعور أني من الأقلية خصوصا عندما يُطلب منا في المدرسة تقديم مستندات لتحديث ملفات الطلبة. الغريب في الأمر أنني وأمثالي من الأقلية التي لم تحصل على الجنسية، رغم أصولنا العُمانية، كنا نبدو مثل الأغلبية، ولا نلاحظ فروقا بيننا في البيئة الدراسية من ناحية الملامح واسم القبيلة ماعدا في الجنسية. وربما لهذا السبب سجلتنا إدارة المدرسة كعمانيين، رغم عدم امتلاكنا لكل المستندات الثبوتية. طبعا بالنسبة لي كطفلة ومراهقة كنت أشعر بفرحة كبيرة وراحة بال بسبب هذه الغلطة التي لا أعلم إن كانت مقصودة أم لا، لأني لن أضطر لتقديم شرح لزميلاتي عن وضعنا المختلف عنهم.


عندما وصلت لمرحلة الثالث الثانوي وذلك في نهاية عام ٢٠٠٧ خلال فترة الاختبارات للفصل الأول. وصلنا خبر وفاة والدي في تنزانيا، الذي كان أقرب شخص لقلبي. ولكن بُعد المسافة والقوانين الصعبة هي ما التي أبعدته عنا وحرمتنا من العيش معا حتى آخر لحظات عمره. أتذكر كلام والدتي بعد رحيله: ” ليس لدي شيء أعطيكم إياه سوى العلم، فقد ضحيت بالعيش سنوات طويلة بعيدة عن أبيكم كي تحصلوا على التعليم، وهذا هو سلاحكم الوحيد الآن”


كانت خطتنا بعد إتمام دراستي في مرحلة الثانوية العامة أن يتكفل والدي بتحمل نفقات دراستي الجامعية في الخارج. وكنت أطمح أن أكون طبيبة أو مهندسة وبالتالي أصبحنا نبحث عن الدول للتخصصات المناسبة وبميزانية محدودة. برغم الظروف النفسية القاسية التي مررت بها تمكنت بحمد الله أن احافظ على مستواي المتقدم في دراستي حتى أنهيت مرحلة الثانوية العامة بنتائج جيدة.


كان نظام مركز القبول الجامعي لا يزال جديدا، ومن باب الفضول قلت في نفسي، لن أخسر شيئا لو جربت التقديم للكليات والجامعات وتسجيل خياراتي للبعثات التي كنت أطمح لها دائما، رغم أني كنت شبه متيقنة من الرفض وكلام خالي الذي كان دائم التذكير لي أنه لا يحق لي الدراسة في الخارج كوني غير عُمانية لكي لا أصاب بالإحباط وخيبة الأمل. لكن تفاجأت عندما قبلني النظام وفتح لي المجال بتسجيل جميع الخيارات للبعثات الخارجية حيث اكتشفت لاحقا بوجود خطأ تقني ما في نظام الموقع. طبعا سجلت جميع خياراتي وعددها 15 وفي المقدمة وضعت بعثات خارجية مثل تخصصات في الطب و الهندسة إلخ. وعندما جاء وقت إعلان النتائج وجدت اسمي منشورا في الصحف المحلية وحصولي على بعثة خارجية. كانت لحظة فرح مليئة بهاجس ومخاوف لأنه على حسب القوانين الحالية شككت بإمكانية السماح لي بالسفر للدراسة بالخارج.


وفعلا كان حدسي في محله، وذلك عندما لمحت مدى الصدمة عندما قدمت أوراقي للتسجيل في وزارة التعليم العالي. كانوا يلحون علي أن أقدم إثباتات تؤكد حصولي على الجنسية العمانية وذلك بعدما قدمت وثيقتي التنزانية. كان ردي لهم بأن هذه هي وثائقي المسجلة في المدرسة ولم أقدم غيرها. رأيت الاستغراب منهم والحيرة من كيفية وقوع هذه الغلطة واستمرار تسجيلي في المدرسة عبر سنوات كعُمانية! بينما كنت أنظر للأمر بالنسبة لي كونه خيرا لنا. طلبت تجميدا للبعثة بحكم أنه يمكن أن أحصل على الجنسية قريبا. حينها وضعت هدفا أمامي وهو أن أصارع العالم للحصول على هذه البعثة وألا أجعل من الجنسية عائقا أمام تحقيق طموحاتي وضياع هذه الفرصة مني.


أصبحت في الشهور التالية أراجع بشكل مكثف وزارة الداخلية وكنت أحيانا كثيرة أتخبط يمينا ويسارا. وكانت اللجنة كلما اجتمعت ترد بالرفض، رغم أن كل هذا حدث بعد وفاة والدي. كان الحل الأخير أن الجأ للمعارف عسى أن يتمكنوا من مساعدتي وشرح قضيتي للمسؤولين من الناحية الإنسانية، على اعتبار أنني ابنة لمواطنة عُمانية وهي أرملة ولا تعمل. أي أنها معتمدة علينا كليا في رعايتها وبمساعدة أنفسنا.


يستحيل أن أنسى ذلك اليوم من شهر يناير عام ٢٠٠٩ عندما اتصلت كعادتي بوزارة الداخلية للمتابعة وتحدثت مع الموظف الذي يمسك ملفي وجاء رده المعتاد: آسف، لقد تم رفض طلبكم مرة أخرى. وشكرته بحزن لكنه عاد وقال لي بصوت مرح: انتظري، مبروكين على الجنسية وتستاهلوا.


في الحقيقة لا أملك كلمات تصف تلك اللحظة! كنا جميعا أنا و والدتي وإخوتي نقف عند هاتف عمومي بجانب المحكمة بالخوير ننهي إجراءات إثبات حالة وفاة الوالد. قمت بعدها مباشرة بمتابعة وزارة التعليم العالي لإنهاء إجراءات التسجيل للبعثة وسفري للدراسة. ولله الحمد تسهلت بعدها أمور إخوتي ولم يعانوا مثلما عانيت.