قفير صدّوه

للكاتبة شذى الطائي

اسمي لبنى ، لبنى الجبنة هكذا اعتادت جدتي ريحانة التندر باسمي ، جدتي ريحانة التي حين ماتت أقسمت سلامة زوجة خالي الكبير عامر أن حمامة جدتي حطت على كتفها في يوم عزاءها الأول ، هي لم تفعل ذلك إلا لتغيظ بقية نساء العائلة؛ فالجدة كانت رأس العائلة ، في الواقع لم ير أحد منا حادثة الحمامة تلك ، وكنت سأجزم أن ذلك لم يحدث في الواقع، وأن القصة مخترعة لولا أن العاملة في منزل جدتي جاءتني في يوم الوهبة* وأنا في المطبخ، وكتفاها العريضان يرتجان من فرط الضحك بعد أن رأت حمامة جدتي تتغوط على رأس سلامة، لترمي الأخيرة بغطاء رأسها وتهرع مسرعة إلى الداخل، لحسن حظها أن الجميع كان منشغل، ولم يلحظ ذلك سوى العاملة الأفريقية التي أخبرتني بعدها بذلك شماتة بخالوه سلامة التي لا يطيقها أحد ، سلامة تكون حماة أختي المسكينة سلوى ، وأظن أنه لا يتوجب علي أن أشرح لكم أي نوع من الحموات هي تلك المرأة التي جعلت من شخة الحمامة ذريعة لتكيد بها الأخريات . في اليوم الأخير من عزاء جدتي، شعرت بغثيان حاد، تغامزت عماتي وخالاتي بأنني قد أكون حبلى، تهلل وجه أمي من هذه التلميحات، لم أكن حاملاً، كنت أشعر بالغثيان فقط، لا أدري لماذا، هل لأننا نأكل اللحم بشراهة في المأتم؟ أم لأن هذا المأتم هو مأتم جدتي؟

لقد كان في جدتي ريحانة شيءٌ يعطيك انطباعاً بأنها لا تشيخ ابداً، الشيب يغزو شعرها نعم، ولكنها شديدة البأس، ألمعية و حادة الذكاء ، متهكمة في أغلب الأحيان، وصوتها مبحوح، تعرف ماذا يجب أن يقال دائماً ومتى، حتى في شكلها، لم تكن مترهلة، كانت دوماً كما عرفتها منذ نعومة أظافري، لايزال عقلي غير قادر على استيعاب فكرة رحيلها ، أذكر أنها في أحد الأيام كانت مستغرقة في نوم عميق ، ناديتها ولم تجب، وحين لكزتها بتوجس، جلست باعتدال، وطفقت مسترسلة تروي لي كيف اني بحماقتي اعدتها من رحلة سريعة للديار. المقدسة، كنت اعلم انها غطت في نوم عميق لا أكثر، ولكن يزعجني أبداً اختلاق هذه العجوز –بنرجسية- لروايات تحدّث بأنها امرأة خارقة للعادة، حتى وإن كانت روايات لا يقبلها منطق ولا واقع.

في الحقيقة هذه المرأة هي امرأة استثنائية، ولن تتكرر، ولو قدّر لها القليل من التعليم والاستقلالية التي قدرت لي على الأقل لكانت امرأة ذات شأن كبير بلا شك، وما كانت بحاجة إلى اختلاق قصص غرائبية لتثبت استثنائيتها. هذه المرأة تستحق أن تعيش للأبد، اضحكتني مرة حين قالت انها توقفت عن تسلق النخلات القصيرة في منزلها ليس لأنها تقدمت بالعمر -كما يجب لنا أن نعتقد-، وإنما لأن الجيران أجروا ملحق منزلهم، وأصبحت باحة منزلها مكشوفة للملحق، ما يعني انها تستحي أن تتعربش مجددا على نخلاتها أمام مجموعة من الأجانب الغرباء.

سلوى أختي كانت مليحة الوجه والجسد، مشرقة الجبين، وتصغرني بأربعة أعوام، حين تخرجت من كلية الاقتصاد تقدم لها وليد ابن خالي عامر، و وافقت عليه ، باركت سلامة هذا الزواج، لأن اختي كانت مسالمة، تسلم للقط عشاءها، أما أنا فقد تزوجت بعد أختي بعامان من بدر، وكان أهل أمي وأبي يرون أني الأقل حظا بين أخواتي، فأنا لم يتقدم لي رجل لا من العائلة ولا حتى من المنطقة، وبما أني اقل اخواتي حظاً من ناحية المظهر، فالأرجح أن زوجي تقدم لي هرباً من غلاء المهور في المنطقة التي ينتمي إليها، هذه الفكرة التي ستروج لها نساء عائلتي الضاغنات وستسايرهن أمي في ذلك خوفاً من أي سيناريو جديد قد يمس سمعتي، ويقترح أني قد أكون على معرفة سابقة به بأي شكل من الأشكال، خصوصا بعد أن أصبحت أمور بدر المالية أفضل من جميع الأصهرة، وأصبحنا مرتاحين من الناحية المادية بشكل لا تخطئه عين، سأقبل بهذه التأويلات على مضض، فأنا لم أسر إلا لسلوى حقيقة أن بدر اختارني لأنه ببساطة أحبني.

نعم أنا أحب هذا الرجل، وممتنة لتعثري به في أحد الاجتماعات الكثيرة التي أقوم بها لصالح مشروعي الصغير، نحن ثنائي رائع، ولكنا عائلة أروع مع طفلنا الذي لم يأتي بعد ، كثيراً ما استرجع ذكرياتي وأنا في التاسعة عشر، ممددة على سريري أبكي من التقلصات التي تمزق رحمي في السكن الجامعي، وحيدة في عطلة نهاية الأسبوع ، اعتقدتُ حينها والنمل يأكل جسدي المخدور بعد أن تناولت الحبة الصفراء العجيبة أن أنوثتي آنذاك ألقت علي أقسى لعناتها، كنت أبدو دوماً كمراهقة، حتى وأنا في الثلاثين، ببشرتي المتهيجة، والبثور التي لا تفارق وجهي ، على الرغم من احتفاظي ببعض الملامح الجميلة، كل هذا لم يجعلني اشعر بنقص، بقدر عجزي عن الشعور مع بدر بأني شريكته خلف الأبواب المؤصدة، مازال موس صدّوه يمزقني، صدّوه التي كنت دائما اسمع جدتي ريحانة تهمس باسمها كلما قَدَمَت مولودة أنثى إلى عائلاتنا، كانت تقول: “تراه طهارة، كيه الصلاة بدونه ما تجوز!”، ثم أتى جيل متعلم وملتحي، أكثر فهماً وانشغالاً بشؤون نساءنا من جدتي ريحانة، ويقول: “إن ختان البنات ما هو إلا إكرام للزوج”، صدوه التي أتصورها التوأم البشري “لأم الصروم*”، أي ذنب اقترفته هذه التعيسة ليختارها القدر لهذه المهمة المخزية ، لتستحق اللعنات مني ومن كثيرات غيري من المتزوجات، أي إكرام هذا إن كان عاثر الحظ يعلم إنك غالباً تتظاهرين فقط لإن جزءا منك مدسوس في أحد قفران صدّوه، اتساءل كم واحدة شعرت مثلي لوهلة أنها خرقة بالية معلقة على غدان* صدوه !!

شاهد المقطع:

__________________________________________________________________________

الوهبة* = يوم من أيام العزاء تجتمع فيه النساء لقراءة أجزاء من القرآن الكريم لختم مصحف عن روح المتوفي .
أم الصروم* = كناية عن شخصية جنية ظلالية من الموروث العُماني والخليجي ” أم الصروم لا تصلي ولا تصوم “
القفير* = وعاء من سعف النخيل يوضع فيه الحبوب والمحاصيل الزراعية.
غدان* = حبل غسيل .