بعد أسبوع من مشاهدتي حوار البي بي سي مع الزميل رئيس جمعية الصحفيين في برنامج بلا قيود والذي دافع فيه عن السلطات الرسمية في البلاد حين تم سؤاله عن الضغوطات التي تتعرض لها الصحف والصحفيين، فضرب مثلاً ببريطانيا بقضية جوليان اسانج مؤسس موقع ويكيليكس الذي أعلنت الداخلية البريطانية موافقتها على تسليمه إلى الولايات المتحدة باعتبار أنه حتى في بريطانيا تحدث التجاوزات وليس فقط مع السلطات في البلاد.
قبل التعليق، أسرد الوقائع التي حدثت بعد أسبوع تقريبا من الحوار، وإليك ما حدث أيها الزميل وبالمثل البريطاني كما أردت أن تقارن، في أتون أزمة رئيس الوزراء بوريس جونسون اتهمت افتتاحية الجارديان البريطانية رئيس وزراء البلاد قبل الاستقالة بأنه مخادع وكذّاب أشر، وأنه تجسيد للأكاذيب التي باعها للحزب الذي اختاره أن يكون زعيماً للبلاد، معلقة أن استقالته ستنهي فترة كئيبة ومدمرة للديمقراطية بعد استنفاد قواعد اللياقة والكرامة الشفهية التي تهدف إلى الحماية من إساءة استخدام السلطة، وأن الضرر الذي ألحقته شخصيته النرجسية بالبلد متوقعا مشيرة إلى نموذج من إساءة استخدام جونسون للسلطة عندما عين صديقاً له على أساس الولاء الشخصي بدلاً من الملائمة الوظيفية رغم مزاعم التحرش الجنسي لهذا الشخص لأن هَمَ جونسون الوحيد دعمه لموقفه، ورأت الصحيفة أن خروجه لن يزيل العار الذي تركته فترة ولايته للحزب الذي وضعه هناك، هذا رأي إحدى الصحف البريطانية في أرفع منصب سياسي في البلاد (رئيس الوزراء) التي شنت هجوماً واسعاً على بوريس جونسون، وبينما كان جونسون يتشبث بالحكم، كانت عناوين الصحف تقول له وبإحدى عباراتها: (كفى يعني كفى) ربما استلهاماً من شعارات الربيع العربي: (ارحل يعني ارحل) وقالت الاندبندنت: أنه لا يوجد سبب وجيه للسماح لرئيس وزراء مخادع بالبقاء في السلطة لفترة أطول، وعنونت الديلي ميل: هل يمكن حتى لبوريس الخنزير الصغير التملص، فطوال الأزمة طاردت الصحافة رئيس الوزراء حتى أجبرته على الاستقالة، بعد دراما سياسة ومعارك علنية وخفية، إلى أن وصلت اللحظة التي بقي فيها شبه وحيد في ساحة المعركة يواجه مصيرة بمفرده، فكان أمامه خياران بحسب الصحف إما القتال وبالتالي يعزل حزبه، أو الاستقالة ويحافظ على البقية الباقية من شعبيته، وبعد التفكير اختار الخيار الأخير فاستقال.
لم تطح برئيس الوزراء تهم فساد كبرى ولا تربح من المنصب ولا تأسيس شركات باسم زوجته لكسب مشاريع حكومية، ولا جمود في السلطة، لقد كان سياسيا فريدا من نوعه كما وصفه تقرير البي بي سي تملَّك إرادة سياسية وروحا قتالية صلبة، عنيدا ومثابرا لا يستسلم بسهوله أمام خصومه، وصاحب شخصية وكاريزما قوية تمكن بفضلها حزب المحافظين الحاكم من تحقيق أغلبية برلمانية في انتخابات عام 2019، كانت القصة حفلة داونينغ ستريت التي خرقت قواعد الإغلاق خلال فترة تفشي كوفيد 19، وذلك بعد صدور تقرير داخلي يدينه فيما باتت تعرف بفضيحة (بارتي جيت)، حيث ورغم أن بوريس جونسون أكد أنه يتحمل المسؤولية الكاملة عن تلك الحفلات ورغم تغريم شرطة لندن له بسبب المخالفة، إلا أن الصحافة لم تترك الموضوع لأنه كذب ولم يعترف إلا بعد انكشاف الموضوع.
أما القضية الثانية: فهي تعيين صديق له كمساعد مسؤول عن الانضباط البرلماني لحزب المحافظين ومتهم بالتحرش الجنسي، إذ أكدت رئاسة الوزراء أن جونسون لم يكن على علم بالمزاعم القديمة، ضد المسؤول حول التحرش الجنسي لكن الكشف عن مزيد من المعلومات أظهر أنه كان على علم بالأمر عندما كان في وزارة الخارجية، وكانت القضية الأخيرة القطرة التي أفاضت الكأس، وكان الكذب هو الذي أوصله إلى هذه النهاية المذلة، لتصفه وسائل الإعلام بالمقاتل الذي قتل بسيفه.
وقبل هذه المقارنة مع بريطانيا أستذكر مقارنة أخرى، فبعد إغلاق جريدة الزمن أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تورنر في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن الولايات المتحدة قلقة للغاية من قرار إغلاق جريدة الزمن، وأن السفير الأمريكي بمسقط نقل هذا الشعور بالقلق إلى حكومة سلطنة عمان على مستوى رفيع، وقتها انبرت بعض الأصوات تضرب الأمثلة لانتهاكات الولايات المتحدة للصحفيين وغيرها.
بل وصل للبعض ليقول لها “إن من بيته من زجاج لا يرمي الناس بحجر” وهنا أيضا أسرد المثل من الجانب الآخر من المحيط، وما فعلته الصحافة الأمريكية في الرئيس الذي تلا أوباما فقد حولت الصحافة الأمريكية بشكل خاص مع بقية وسائل الإعلام حياة الرئيس ترامب إلى جحيم مفتوح حتى آخر يوم من رئاسته، لكن رئاسته مرت دون أن يستطيع سجن صحفي أو إغلاق صحيفة، وتشاركت بعض مؤسسات الدولة مع الصحافة في هذه العدوانية مع الرئيس وتجلت أكثر في مجلس النواب حيث وافق مرتين على دعوى عزل الرئيس، الأولى في عام 2019 والثانية في يناير 2021 ليصبح الرئيس الأمريكي الوحيد الذي تعرض لإجراءات اقالته من منصبه مرتين، وكان المشهد الأكثر اثارة وشهرة في هذه العلاقة عندما مزقت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي نسخة من خطابه حول الاتحاد في عام 2020 فور الانتهاء منه وهي تقف خلفه مباشرة بعد أن تجاهل مصافحتها.
بالطبع لا توجد أي مقارنات من باب أنه حتى في أمريكا وبريطانيا وفي الأعمق علينا جميعاً ألا نقارن لأن الوضع مختلف تماماً، في عالمين مختلفين فيما يتعلق بحرية الصحافة بعيداً عن الرأي من هو الأفضل، لكن الزميل رئيس جمعية الصحفيين الذي تزاملت معه في سراء المهنة وضرائها فتح من جديد مسألة التبرير للسلطات حينما تعتقل صحفيا أو تغلق صحيفة أو موقعا، وأكرر أن علينا أن لا نقارن فلكل دولة ضروفها المتسقة مع تجربتها من الماضي إلى الحاضر. لا أريد التعليق على الموقف الأمريكي فقد أوضحته في تقرير الزمن تماماً كما أوضحت الجزئية التي خصت بريطانيا في قضية الزمن التي رفضت سفارتها بمسقط استقبال المحامي البريطاني الذي حضر المحاكمة مرسلاً من قبل منظمات دولية تعنى بالصحافة فأغلقت في وجهه الباب، فكلاهما كان له انعكاساته السلبية على مجرى قضية الزمن. لكن ما أشير إليه هو هذا التبرير للفساد والطغيان بحيث كلما سجنت السلطات صحفيين أو أغلقت صحفا انبرى مؤيدوها إلى الضرب بالمثل ببريطانيا وأمريكا، ويقطعوا جزئية من المشهد العام ليقوي بطش السلطة التي غالباً ما تكون فاسدة من رأسها حتى أخمص قدميها.
وهنا استذكر موقف جمعية الصحفيين حينما شنت هجوما عنيفا على الزمن فيما كانت السلطات تشن سلسلة اعتقالات على صحفيي الزمن وتزج بهم في السجون الواحد تلو الآخر، وقبل أن تدافع السلطات الرسمية عن نفسها كانت الجمعية تهاجم الزمن لتكون ملكية أكثر من الملك، في مشهد يعكس الانحطاط السياسي الذي وصلت إليه تلك المرحلة، فكيف لجمعية أنشأت أصلا للدفاع عن الصحف والصحفيين أن تكون هي أول المهاجمين لهم حين تعتقل السلطات أي صحفي أو تغلق أية صحيفة، فحتى الجهة الرسمية التي عنتها الجريدة التزمت الصمت فيما جمعية الصحفيين غير المعنية بالموضوع كانت أشبه بالمتحدث الرسمي للسلطات الرسمية والمحرض الأكبر للسلطات على معاقبتها، وقبل أن تدافع السلطات الرسمية عن نفسها في القضية التي نشرتها.
إن هذا التبرير وهذه المجاملات لم تخدم البلاد في المرحلة السابقة، وبالتأكيد لن يخدمها في هذه المرحلة، بل يزيد الأمور تعقيداً أكثر مما هي معقدة، فلا وقت لتبرير الأخطاء ولا للتغطية على الفاسدين الذين يشعرون بالارتياح، وتجعلهم يلتقطون الأنفاس، وتنام رؤوسهم على مخدة ناعمة بعيداً عن الكوابيس بينما يزيد من متاعب وعذاب الصحفيين، ومثل هذا التبرير يترك جرحاً لكل زميل سجنته السلطات.
2- لماذا أغلقت الزمن؟؟
لن أتحدث طويلاً عن قضية الزمن لكن لا بد من هذه الإشارة السريعة ، فلقد تقدمت برسالة إلى السلطان تتضمن تقريرا من 153 صفحة يتضمن 51 زاوية من الأحداث المرتبطة بعمق في القضية بداية من القضاء إلى قرار وزير الاعلام بإغلاق الصحيفة، مرورا بالنظام الاساسي للدولة الذي تجلى في عدم احترامه بعد تحدي وزير الاعلام حكم محكمة الاستئناف واصدار القرارات باستمرار إغلاق الصحيفة رغم حكم المحكمة بإلغائه بالاضافة إلى انتهاك قانون المطبوعات والنشر، وتجارة القصر حيث كان أحد اطراف القضية منغمسا فيها ، بالاضافة إلى الدليل القاطع برشوة نواب بالمحكمة العليا باعتراف أحدهم شخصيا للزمن برشوته ، ناهيك عن رفض وساطة من سماحة مفتي عام السلطنة لحل القضية والتي لم تلق الاحترام من القيادة على خلاف ما تبديه ظاهريا أمام الناس ، والتقرير يتضمن أسبابا رئيسة لنشر القضية من أهمها تأشيرة السلطان الراحل على رسالة تقدم بها الطرف صاحب الحكم في القضية إلى السلطان، ونأمل نشر التقرير قريبا إلى الرأي العام ليطلع بالضبط على تفاصيل القضية .
وتم توجيه الرسالة عبر وزير الديوان التمست فيها أمر السلطان بإجراء تحقيق معمق وشفاف ومحايد في القضية التي تسببت في إغلاق الجريدة، والرسالة في مكتب الوزير منذ أكثر من عام ولا يزال يماطل في رفعها لأن اسمه ورد في جزئيتين في قضية الزمن التي هي أعمق بكثير جداً مما ظهر على السطح الذي تم التمويه على القضية الأصل، وهي أن هناك أمر من السلطان السابق في تنفيذ أحكام هذه القضية، وأن هناك من أقرب مساعديه من يريد التلاعب بالأمر من أجل تسويفه نتيجة شبهه شراكة تجارية مع الطرف الآخر الخاسر في القضية، وهذا الطرف على علاقة تجارية بأمور القصر ناهيك عن التلفظ بأن وقف الحكم بناء على أوامر من جهات عليا ومرة بأوامر سامية، مما وجدت الزمن حينها أن الوضع حرج جداً وهي إشارة أن السلطان الراحل فقد قوته في القصر، وفقد قبضته المعهودة في إدارة شؤون البلاد وهو ما أبلغت بمضمونه وزير الإعلام في حينها في أول لقاء معه بعد خروجي من السجن، ولكنه مثل كل المسؤولين بالسلطة لا حول لهم ولا قوة حينما يرتبط الموضوع بالقصر، فلم يكن في قيادة البلاد السياسية وقتها من يجرؤ حتى التفكير في ذلك بما فيها القيادة التي تولت الحكم فيما بعد.
إن من تسلم تدمير جريدة الزمن هو نفسه من اشتبهت فيه الزمن، ولأنه جريح وفاسد ومخادع استغل كل قوة الدولة التي كانت تحت يديه في ظل مرض السلطان للانتقام بأقسى أنواعه، بحيث لم يشهد تاريخ عمان الحديث مثيلا له اتجاه مؤسسة في البلاد وملاكها سوى كانت صحيفة او غيرها.
إن السبب الرئيسي لإغلاق جريدة الزمن ليس لمعاقبتها فقط بل لإسكاتها بأي وسيلة عن نشر ما يجري حول القصر أثناء مرض السلطان السابق، حيث تأكد لتلك المجموعة عبر استخباراتها أن الجريدة عازمة بكل جرأة لكشف المزيد لما يجري، وأثناء تحقيقات الادعاء العام تم التأكيد بأن الزمن كانت تحت الرقابة حول تحركاتها في القضية التي نشرتها، وتم الإشارة إلى أحد الاجتماعات الذي جرى بمكتب الزمن بأن جميع ما دار فيه كان تحت علم السلطات.
ومما يحبط في المرحلة الجديدة أن نفس المجموعة المرتبطة بالقصر الواردة أسمائهم في تقرير الزمن المرفوع إلى السلطان والتي أدارت البلاد في مرض السلطان الراحل يتم تكريمهم بأرفع الأوسمة، باستثناء أحدهم حيث أحيل إلى المحاكمة التي أدانته وحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة، ومنح المسؤولين عنه الأوسمة،والسؤال كيف يترك السلطان في شدة مرضه لملاحظ يتلاعب باسمه ويستولي على ثروة كبيرة فأين أجهزة الدولة التي يتم التفاخر بها؟ لماذا لم تراقب ما يدور حول السلطان في القصر أثناء مرضه؟ إلا إذا كانت تلك الأجهزة تحت سلطة متواطئة معه، خاصة أن هذه الأجهزة تحت اشراف أشخاص عاشوا في القصر مع نفس الملاحظ لسنين طويلة ورافقوا السلطان في تفاصيل حياته وتجمعهم معه صداقات زمالة وبعضها يتم الحديث عن معاملات تجارية، فلماذا لم تحم السلطان من مثل هذه الجرائم التي أدانتها المحكمة بعد وفاته ؟
إن الزمن لم تخطئ في النشر سواء عن القضاء أو غيره، فلقد كانت البلاد في السنوات الخمس المريضة عبارة عن مغارة نهب وفساد، فقد انتهت تلك السنوات بدين عام غير مسبوق في تاريخ البلاد حيث وصلت الديون الحكومية إلى 24.8 مليار ريال عماني، أضف إليها الديون العامة غير الحكومية التي شهدت هي الأخرى ارتفاعا هائلا وصلت وفق التقارير إلى 13.5 مليار ريال عماني ويتعلق بالدرجة الأولى ديون شركة نفط عمان وشركة الطيران العماني وشركة الكهرباء القابضة، وهذا يعني بأن مجمل الدين العام حوالي 38.8 مليار ريال عماني أي ما يعادل تقريباً 100 مليار دولار، بالإضافة إلى السحب الكبير من الاحتياطي الذي تم تصفيره تقريبا، كما أن رقم الديون صادم ليس على الصعيد الإقليمي فحسب بل على الصعيد العالمي مقارنة بنسبة السكان الذي لم يكن يتعدى مليونين ونصف المليون نسمة في عام 2016 حين أغلقت جريدة الزمن فقد بلغ عدد السكان بالضبط (2461794 نسمة) مليونين وأربعمائة وواحد وستون ألفاً وسبعمائة وأربعة وتسعون شخص ولديه ثروة نفطية بإنتاج مليون برميل يومياً كأكبر منتج للنفط خارج منظمة أوبك في الشرق الاوسط، بالإضافة إلى القفزات الكبيرة في انتاج الغاز التي تحققت بسبب اكتشاف الحقول الجديدة، وقاد هذا الوضع المنكوب البلاد إلى ترد غير مسبوق للحالة المالية الداخلية والخارجية مما أدى إلى تقهقر تصنيفها الائتماني وجعلها أسيرة الاعتماد على الدين الخارجي لتمويل العجز والديون المستحقة، ولم ينقذها من هذه الكارثة سوى الارتفاع الكبير لأسعار النفط في الأسواق العالمية خلال الفترة الماضية.
فقد سجلت إيرادات النفط والغاز في البلاد قفزة كبيرة خلال خمسة الأشهر الأولى من هذا العام 2022 بدعم من أسعار الطاقة وبلغت إيرادات النفط نحو 3 مليار و 924 ألف ريال عماني بنهاية شهر مايو مدعوما بارتفاع كبير في انتاج النفط إذ صعد إلى 1.05 مليون برميل يوميا، وكانت هذه الإيرادات حققت قفزة تاريخية خلال الربع الأول من العام الجاري، حيث ارتفعت إيرادات النفط بنسبة 70.2% فيما بلغت الزيادة في إيرادات الغاز نحو 124.4%، نعم لم يجر التحقيق في أخطاء تلك المرحلة فأغلقت الزمن وفيما بعد تم تحميل أعباء تلك الأخطاء على الشعب المثقل أصلا بالأعباء من خلال رفع أسعار البنزين وفواتير الكهرباء والماء وفرض الضريبة المضافة التي أدت إلى زيادة الأسعار وفرض ضرائب غير مسبوقة على رسوم الخدمات الحكومية، ناهيك عن تكبيل البلاد بدين سوف يثقل كاهل البلاد لسنوات طويلة، وما هو محبط أيضاً في الوقت الذي تكرم فيه القيادة الجديدة تلك المجموعة التي تتحمل المسؤولية الكبيرة عن هذا الحال في السنوات الخمس الأخيرة من حكم السلطان الراحل وتبقيها في السلطة بنفس مناصبها يتم في المقابل تسريح الألوف من موظفي الخدمة المدنية والجيش والأمن ممن عملوا بتفان لسنوات في خدمة بلدهم عن طريق إجبارهم على التقاعد الاجباري! وبدلا من التغيير الحقيقي يتم إجراء تغييرات شكلية من قبيل استبدال وزير الإعلام وغيرها من المناصب التي ليس لها أصلاً تأثير حقيقي في إدارة البلاد.
إن التغطية على تلك الأخطاء وإعطاء صورة مضللة عنها كفيل بالإطاحة بالإدارة الجديدة كما في المثل البريطاني، لأن التكتم عليها هي إشارة سلبية جداً لاحتمالية تكرارها أو الاستمرار على نفس النهج، ومن الغريب أن القيادة الجديدة لا تخفي نيتها في الاستمرار على نفس النهج، بينما المطلوب هو قطيعة تامة مع ذلك الإرث الذي أوصل البلاد إلى هذه النتيجة وبالأخص السنوات الخمس المريضة، كما أنه ليس من مصلحة الشعب ولا القيادة الجديدة من التذكير الدائم بذلك الإرث، فقد أصبح من الماضي بسلبياته وايجابياته، فالشعب من مصلحته أن يطلب من القيادة التي استلمت الحكم إنجازاتها الخاصة بها دون تسميعه كل يوم بإنجازات قيادة ماتت، أما القيادة الجديدة من مصلحتها أن تتباهى بإنجازاتها الجديدة لا إنجازات الحكومة الراحلة، فالقطيعة مع الإرث السابق أصبح مصلحة وطنية شاملة.
إن التاريخ يحكم على الأغلب على نهاية التجربة وليس بدايتها ووسطها، ففي “المثل البريطاني” فإن بوريس جونسون كانت بدايته قوية وارتفعت شعبيته إلى مستويات قياسية وكان يمشي على خطى ونستون تشرتشل لكن نهايته كانت مدمره لذلك الإرث، بحيث وصلت الصحف البريطانية إلى الدعوة إلى القطيعة التامة مع ارثه.
3- الصحافة .. تكون أو لا تكون
أيا زميلي رئيس جمعية الصحفيين بعد أن عرضت عليك دور الصحافة بالمثل البريطاني كما أردته في اسقاط رئيس وزراء البلاد بوريس جونسون ثم مصير جريدة الزمن وحال البلاد كما تراها مثقلة بالديون، أعود إليك الى الدور الحقيقي للصحافة في مواجهة وعلاج الداء الذي تمر به البلدان، مثلما مرت به جريدة الزمن في تلك الأيام العصيبة عليها وعلى الوطن وما آل إليه الوطن وآلت إليه الزمن، وأعود إليك ماذا يفعل الاستبداد وكيف تصبح البلدان بعد التخلص منه.
إن الصحافة وبعيدا عن المقارنات دورها الأهم هو تعقب أوجه القصور ولإجراء تحسينات واصلاحات في إدارة الحكم، ومهما كان عرض هذا القصور مؤلما إلا ان مثل هذه الشفافية المفاجئة تضع القيادة أمام ضغط وتزيد من فرص تصحيح الخلل، ثم إن المشكلة ليست في اتساع جرأة الصحافة بل في ضيق صدر القيادة الحاكمة، وغالبا ما يكون هذا الضيق سببه هو تغلغل الفساد، فكلما اتسعت دائرة الفساد ضاقت مساحة الحرية في الصحافة والعكس صحيح، كلما ضاقت دوائر الفساد اتسعت الحريات، وهذه القاعدة تجري مع كل البلدان والأمم، فالدول التي أحرزت تقدماً حضارياً قديما وحديثا شرقا وغربا، هي تلك التي وضعت أسساً قوية لضمان أكيد بعدم الفساد في نظامها السياسي، فالرقابة تهدف إلى التقليل من أخطاء العاملين في إدارة الحكم، والارتفاع بمستوى عملهم ومضاعفة الاطمئنان بحسن أدائهم للمهام الموكلة إليهم.
إن الشفافية الحقيقية والمسائلة ضرورة لا بد منها لمكافحة الفساد الذي أصبح أشد فتكا بالبلاد وأكثر تعقيدا، وهو يشكل تهديدا كبيرا على استقرار البلاد وأمنها أكثر من كونه مجرد وسيلة لتعبئة جيوب النخبة الفاسدة بالمال، ممارسات الفساد والرشوة واستغلال السلطة آفة تنخر ببنية البلاد وتكبدها خسائر سنوية بالملايين مما يعيق أي فرصة للتقدم، وهو السبب الرئيسي وراء فشل أي مشروع تنموي وغيره في البلاد، ولن يتم تحقيق أي عدالة وكرامة دون استئصاله ولن يتم انجاز أي شيء في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ولا انشاء الوظائف التي هي مشكلة كبرى في البلاد دون مكافحته، ويطلع الشعب بدورة لإجتثاثه والجهر به وتكاتفه مع كل من يبلغ عنه لضمان حمايته من الانتقام من الفاسدين في السلطة.
إن البلاد بحاجة إلى قيادة متماسكة لديها فهم واضح للتحديات الحقيقية التي تمر بها البلاد، فالسياسات السابقة في الأمس انتهت بتكبيل البلاد بديون تستنزف ما توفره وفورات النفط اليوم، ورغم وضوح كل الشواهد على الأزمة في المرحلة السابقة كان هناك من يغطي عليها ويبررها، كان لا صوت يعلو سوى صوت المجاملات والأكاذيب بكلمات مخادعة تغزل بأجمل ما في اللغة العربية من كنوز، لتغطية أخطاء جسيمة تجري تحت السطح سيكون فيما بعد من الصعب إصلاحها لأن تأثيرها عميق ومن أبرزها تكاليف الديون الباهظة.
فرغم الضجة المخادعة التي أثيرت بشكل واسع عن خطط بعيدة المدى، فإن التجربة السابقة في خطة 2020 أكدت بما لا يدع مجالاً للشك بأنها فاشلة، فلم تحقق أي انجاز حقيقي يذكر ففي سنة نهايتها 2020 والتي كان من المخطط أنها ستحل مشكلة اعتماد البلاد على النفط من خلال تنويع مصادر الدخل، كانت البلاد في هذا العام شبه منكوبة حتى قبل انتشار كوفيد حتى لا يكون ثغرة وحجة، فلا يوجد أي أثر لأي انجاز لها ويبدوا أن الحكومة كانت بحق تفتقر إلى الإحساس بالمسؤولية اتجاه الخطة، وتفتقر بشكل عميق للجد، رغم التحديات الغير مسبوقة التي تتعرض لها البلاد، فقد كانت حفنة أكاذيب يراد بها الهاء الناس واشغالهم بوعود مخادعة، وإذا استمرت هذه الروح سيجد القائمون على خطة 2040 صعوبة كبيرة في انجاز أي شيء، وبدلا من الإنجاز سيتم مرة أخرى ضخ الأكاذيب وبنفس الكلمات المخادعة.
وعلى ما يبدو أنه وعلى نفس المنوال يتكرر نفس الخطأ في المرحلة الجديدة، تُغزل الكلمات على شكل أكاذيب صريحة حول واقع فنتازي أشبه بالخيال في الأحلام، بينما الواقع فقير أكثر مما يتخيله الناس، ولكن في هذه المرحلة ستكون المشاكل أعمق فإذا لم تواجه بشكل حقيقي بعيدا عن الأسلوب السابق ستكون العواقب وخيمة على البلاد، ورغم أن الخاتمة لهذه النتيجة ليست وشيكة إلا أنها ليست بعيدة.
إن الاهتمام السطحي بشؤون الدولة يتجلى في عدم اهتمام القيادة في إدارة البلاد بشكل حقيقي، والاكتفاء بالتوجيهات والقرارات هي أخطر التحديات، ولعلها مشكلة مزمنة فالتعالي على الاشراف المباشر على الخطط والمشاريع هي من بين أخطر نقاط ضعف القيادة، أضف إليها نظام الفرد الواحد.إن البلاد بحاجة إلى أن تكون قيادتها متماسكة ولديها فهم واضح للتحديات الحقيقية التي تمر بها البلاد وعدم مواجهتها ستزيد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية سوءا أكثر مما هي سيئة الآن، والتي هدأت مؤقتاً بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار النفط.
إن المكاشفة والصراحة عادة ما تكون بداية لمسار صحيح يثير الاطمئنان على عكس التكتم والغموض الذي يصل إلى القمع لأي صوت يجرؤ للحديث عن الأخطاء تصل إلى الاعتقال والزج به إلى السجن، فهذا الأسلوب يعطي رسالة مرعبة بوجود شيء فاسد يراد التغطية عليه كما في السابق.
إن البلاد في حالة خطرة ، فلا وقت للهدر والمجاملات على الأخطاء والافراط في المدح والتزييف، والنفاق مع الحاكم ورفعه فوق مقام البشر من كذب يدركه “الحاكم” الممدوح نفسه، وهذا الافراط في المدح للحاكم وبطانته مضر للحكم نفسه لأنه يحجب عنهم حقيقة الواقع وأحوال الناس، ثم إن هذا المديح لا يليق حتى بالحاكم نفسه، لأنه يعطي صورة عن طبيعة الحكم في البلاد، فعادة المديح والتملق تنتشر زمن حكام السوء والفساد وتقل أو تنعدم ابان ولاية العدل. فممارسات الأنظمة الشمولية المستبدة والتي تسلطت على شعوبها حافظت على طغيانها ووجودها بالعنف والقمع والاستبداد، وكان من نتائج ذلك هو شعب مثقل بهمومه السياسية والمعيشية ومخاوفه الأمنية، فهذه النظم تقتل في الشعب إرادة التفكير والتطوير والابداع وتخلق مجتمعاً متأزماً، يعيش خاملاً فاسداً ضائع القصد حائراً لا يدري كيف يقضي ساعاته وأوقاته، وكما يرى علماء الأمة بأن الاستبداد هو أساس جميع أنواع الفساد وأن عاقبته لا تكون إلا وخيمة، كما أن الاستبداد بوضوح هو من صفات الحاكم المنفرد والمطلق العنان الذي يتصرف في أمور رعيته بإرادته دون الخوف من المحاسبة أو العقاب.
إن حكم القوة والإجرام وقلة الصبر على الآراء المخالفة طبيعة ملازمة للحكومة المستبدة، الذي فيما بعد تنشر هذه الطبائع في الدولة كلها لتعم العلاقات الاستبدادية بهيئاته جميعها، كما أسهمت في تجذر التجزئة والفرقة بداخله. وبالتالي فإن ولاية الحاكم تسقط فوراً إذا ما اكتشف أن صاحبها كان فاقداً للاشتراطات أو أنه ابتلي بسوء استخدام السلطة أو عرض الإرادة للانتهاك حتى وصل إلى المخالفات الشخصية – وإن لم تكن على صلة بالسلطة – تسلب الشرعية وتسقط الولاية، وهذا ما أطاح برئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي كذب حول حفلات انتهكت الحظر خلال جائحة كوفيد.
إن هذه القواعد هي جزء من القواعد التي كتبها تراثنا حتى قبل أن تصبح بريطانيا دولة عظمى، ومن الجدير بذكرة في هذه الجزئية أن قوة بريطانيا بدأت عام 1688 حين انتقلت من العصور الوسطى إلى الحديثة بعد أن تخلصت من الملك “الطاغية” الذي كان يحكم بشكل مطلق بدواعي الحق الإلهي في الحكم، حيث أن الملك كان يعتقد أنه ظل الله في الأرض، وأن سلطانه لا يقف دونه سلطان، بينما كره الشعب جنون الملك وأنانية الطغاة، وبثورته على الملك أعلى كلمة الشعب وأصبح الحكم بيد البرلمان، الذي أصبح صاحب الكلمة العليا في شؤون الحكم، مما كان لهذه الثورة الأثر الكبير على بريطانيا وخارجها. ومن الجدير ذكره مرة اخرى انه في هذا التاريخ تقريبا كان يحكم عمان الامام العظيم سيف بن سلطان (قيد الارض) الذي على يديه تم القضاء نهائيا على الاستعمار البرتغالي في عمان الذي كان في ذلك الوقت قوة عظمى تسيطر على اجزاء واسعة من العالم قبل الاستعمار الاسباني والبريطاني والفرنسي. وتحت قيادة (قيد الارض) كانت عمان قوة مهابة باسطولها الضارب في المحيط الهندي، وشهدت تلك الفترة تطورا كبيرا في الصناعة والزراعة والعمران.
4- كم في البلاد .. “يا زميلي”؟
أرجوا منك يا زميلي أن تتمعن في التجربة البريطانية وأنت تضرب المثل بها وقارنها بمن دافعت عنه، فكم في البلاد من مخادع وكذّاب أشر في السلطة، كم في البلاد من تجسيد للأكاذيب التي يبيعها للمواطنين الذين وثقوا بهم كحكام ومسؤولين، كم في البلاد من مسؤول لا يشعر بالندم على سوء ادارته أو حتى بلفظ يدل على أن ادارته سيئة، كم في البلاد من مسؤول لديه نرجسية تقوده إلى الإفراط في الانغماس في الذات والكذب الانتهازي المتأصل وعدم الاهتمام بالتفاصيل، بالإضافة إلى الشهية المفرطة لإرضاء الذات المستمر، كم في البلاد من مسؤول أدمن التملق للجمهور بينما إنجازاته لا شيء، كم في البلاد من مسؤول مراوغ تأصل في أسلوبه الوهم بإيمانه الذي لا يتزعزع في قدرته على الخروج من المشاكل عن طريق غزل الكلمات فيما كان يراوغ ويكذب بشكل صريح.
كم في البلاد من مسؤول يدير البلاد عن طريق الحملات الإعلامية وليس من خلال المداولات الجماعية والانجاز، كم في البلاد من مسؤول فقد ثقة الشعب ولا يزال في إدارة الحكم، كم في البلاد من مسؤول تولى ولم يفهم معاناة الشعب، كم في البلاد من مسؤول عمّر وبقي رغم أن كل الدلائل تشير إلى أن سياسته محكوم عليها بالفشل، كم في البلاد من مسؤول أحس الناس أن الوضع تحت قيادته لن يتغير مع ذلك عمّر في منصبه، وكم مرة في البلاد تم فيها إساءة استخدام السلطة من خلال تعيين أخ أو ابن أخ، خال أو ابن خال، صديق طفولة أو مدرسة أو قريب على أساس الولاء الشخصي بدلاً من الملائمة الوظيفية، فقط الهم الوحيد دعم المواقف الشخصية، كم في البلاد من مسؤول في القيادة تعسف باستخدام السلطة لمصالحة الشخصية، كم في البلاد من شخصيات نرجسية في السلطة ألحقت ضرراً كبيراً بالبلاد، كم في البلاد من قيادة أضاعت فرصاً غير عادية الواحدة تلو الأخرى لو استغلت بشكل صحيح ستحدد مصير جيل أو أكثر. كم في البلاد من في السلطة من ينتهكون القانون ويطالبون الناس باحترامه ويسجنون من لا يحترمه ، كم في البلاد من مسؤول مغرور وجاهل ،كم في البلاد من تعويذة سامة يجب كسرها ، كم في البلاد يا زميلي من كذاب أشر في السلطة ، وكم في استقالاتهم أو زوالهم ستنهي فترة كئيبة ومدمرة على البلاد.
أتمنى يوماً أن تضرب للمسؤولين الذين يحكمون البلاد المثل بمصير “الكذّاب الأشر” رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، لعلهم يستفيدوا من تجربة المستعمر الذي يتقاسم مع البلاد نصف ثروة النفط منذ ما يقارب قرن من الزمن، وبنفس الحصة من الغاز منذ اكتشافه لعلهم يأخذون منه العبر. مع تشائمي في تحقيق ذلك لأن الاستعمار والاستبداد متلازمان كالماشي وظله.
تنويه: الآراء المعبر عنها في هذا المقال هي للكاتب ولا تعبر بالضرورة آراء الجمعية
من هو إبراهيم المعمري ؟
المقطع: “إبراهيم والزمن” بقلم إبنته نَهيلْ المَعْمري