الرئيسية » أخبار » أخبار عامة » انتصرِي لنفسكِ

انتصرِي لنفسكِ

وضحاء شامس – سلطنة عمان

أنتمي إلى بيتٍ حظيَ باهتمام كبيرة بالمرأة، فقد كان أبي –رحمه الله- داعمًا حقيقيًا لنا على المستوى الأسري والعائلي، وضع كل ما يملكه من مال لحصولنا على تعليمٍ جيّدٍ مؤكدًا دائمًا أن المرأة تستسقي جمالها من شهادتها العلمية، فلم يقصد الجمال هنا بمعناه الشكلي؛ بل كانت إشارة ضمنية إلى جمال العقل وكيف أن النسوة يمكن أن تخلق لها جمالًا منفردًا بالعلم والمعرفة، كانت الوصية الأخيرة التي قالها لي “كلمة واحدة” وهو على فراش المرض: “دراستكِ”، إنها الوصية التي لا زالت عالقة في ذاكرتي للحظة التي أكتب عنها الآن.
لقد كنتُ اتكِئ على أبي قبل وفاتهِ للحصول على كل حقوقي التافهة والقيّمة دون معاناة، كان خط الدفاع الأول في مجمل أخطائي في مرحلتي الطفولة والمراهقة حتى وأنا على مشارف مرحلة النضج لم تشكل لي النسوية قضية ذاتية حقيقية أو قضية عامة، لقد كنتُ أتمحور بشكلٍ فجٍّ حول نفسي ضاربة تأوّه ومكابدة النساء لهمومهن في هذه الحياة.
حتى عندما واجهت أول حادثة في مرحلة الابتدائية، كنت أعود إلى المنزل أحكي لأمي عن قصة شمعة وأنا في حالة تعاطف طفولي. شمعة كانت الطفلة المقيدة بالحبال ليلاً والمطلق سراحها صباحًا، كانت شمعة تأتي إلى المدرسة وتكشف لنا عن آثار الحبل المعقود على رسغيها في منتصف الليل متألمة، تسرد لنا أنواع العقاب الأسري الذي تتعرض لهُ، كالحبس في دورات المياه، النوم فوق سطح البيت، استخدامها كعامل مزرعة؛ فقد كانت يداها خشنة وفي حالة جفاف دائم بسبب الأعمال الشاقة التي تنجزها، اعتقدت أمي أن قصة شمعة هي من وحي خيالي ولكن بعد التقصي اتضح لها أن شمعة كانت كابوسًا حقيقيًا…!
وأجزم أن أولَ موقف نسوي اتخذتهُ بشكلٍ جدي كان عام 2014م، عندما أخذت العديد من الدراسات في قسم علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس تناقش قضايا النسوية العُمانية كالطلاق والعضّل، وعزوف المرأة عن المشهد السياسي، وأدوار جمعيات المرأة العُمانية المبهمة كل هذه القضايا دفعتني إلى أن اتجه نحو دراسة الوعي القانوني لدى المرأة العُمانية، كانت بداية رحلة الوعي من ذاتي امرأة “باستدخال الخارج واستخراج الداخل”، وفهم جميع المعطيات الداعمة و الممكِنة ابتداءً من القانون وانتهاء بالمجتمع، حيث بدأتُ أدرب نفسي للحصول على حقوقي العامة استنادًا على المواد القانونية دون أن أفكر بالاستعانة بباحث قانوني أو مكتب محاماة، الأمر الذي طوّر لدي بعض المهارات في كتابة المراسلات التي تتضمن مطالباتي في بيئة العمل أو في مكان الدراسة، فقد استندت على فكرة البحث عن المواد القانونية التي يمكن تخدم قضيتي الشخصية كلما استدعى الأمر ذلك.
إن إيماني التام بقدرتي للوصول إلى حقوقي ليس محض زيف ووهم، بل كان استعدادًا كامنًا ورغبة داخلية تدفعنيِ للسعي نحو الهدف المحقق، فلا يمكن أن أتبنى كوني امرأة فكرة الكائن المستضعف الذي لا حيلة له أمام نفي المجتمع المتكرر، كان لابد أن أخلق من جديد.. أن أنسلخ من جلدي الخائف.. أن أخرج كفراشة ملونة من شرنقتها وأنا في حالة من الكمال والنضج والاستعداد لمواجهة صنوف الحياة.
بدأت القضية النسوية تتسع دائرتها أثناء عودتي من الدراسة الجامعية بعد أن تفاجأت بواقع العمل المدرسي الذي تركني أقف أمام (48) حالة طالبة منقطعة عن الدراسة، لقد كان الأمر أشبه بالحلم فلم يتبادر إلى ذهني للحظة أن هناك أعداد كبيرة من الفتيات لا يرغبن باستكمال تعليمهن في المدارس الحكومية، كان الموضوع غامضًا بالنسبة لي ولا يتطابق مع عدم رغبتهن لاستكمال الدراسة فهو سبب ليس عقلانيًا. تعاملت مع الحالات وفق المعطيات التي تصلني من أسرهن سوى من أب أو أم أو أخ حتى انتقلتُ في البحث عن أسباب أخرى مواريه أكثر منطقية من خلال صديقاتهن في المدرسة، وإجراء الاتصالات الهاتفية لأكثر من فرد على مستوى المحيط العائلي؛ لمطابقة الأسباب، ثم انتقلت إلى آخر الخيارات “الزيارات المنزلية”، وقد أخذ هذا الإجراء طابع الحذر. كان الحذر هنا واجباً محتماً؛ لسببين: أولاهما: خصائص بنية الأسرة العُمانية التي تتسم بالتحفظ، ويعني ذلك أن أتحمل تبعات هذه الزيارات المنزلية بجميع أشكالها، ثانياً: ما أقوم به كان بمثابة محاولة قفز فوق الجدران المرتفعة الممنوعة.
وقد اتضح أن أغلب الأسباب تعود إلى تزويجهن في سن مبكر وحرمانهن من التعليم، فتنظر بعض الأسر العمانية أن الزواج سنة الحياة دون أن تخضع هذه سنة الكونية لاشتراطات واضحة، وتعدُّ هذه القضية أحد القضايا التي تحاول بعض الأسر تغيبها عن الأنظار وممارستها دون رادعٍ قانونيٍّ رغم أن المواد القانونية سنتها بشكلٍ واضحة وصريح وتمثلت في أهلية الزواج تكون بالعقل وإتمام (18) عامًا من العمر دون تمييز بين فتاة أو شاب، وحتى الآن لم يستطع القانون أن يقف في مواجهة ظاهرة الزواج المبكر للفتيات. وقد تبادر في ذهني حينها العديد من التساؤلات وهي: كيف استطاعت الأسر أن تسلب حق ابنتها في التعليم؟ ولماذا يوافق الشيخ أو رشيد المنطقة على عقد قران فتاة لتؤسس أسرة تحت سن القانون؟ وكيف مررت وثائق الزواج في مكاتب العدل ليتجاوز القانون نفسَهُ؟! وما مستوى التدخل الذي يمكن أن أقوم بهِ في مثل هذه الحالات؟
في السنوات الماضية طرقت أبوابًا مغلقةً مطالبة بعودة الفتيات المنقطعات عن الدراسة إلى التعليم على الرغم من المحاولات المتكررة المحبطة ومحاولة إقناع الأسر المتحفظة، كان هناك بصيص أمل اتشبث به كلما انتهت زيارة منزلية، أنتظر اتصالاً من ولي أمر بفارغ الصبر لموافقته على عودة ابنته واستكمالها للتعليم.
فلازالت المرأة توضع في الصف الأول / الأخير لحل قضايا والدها أو أخيها أو أسرتها على وجه العموم إنها الإنسان الضمني عندما ترغب الأسرة أن تجعلها مستترة عن الأنظار، والإنسان الظاهري عندما ترغب الأسرة ذاتها بالانتفاع منها، أنها المرأة التي تأخذ قوالبًا وأنماطًا مختلفة تشكلها بعض أيادي الأسر، والثوب الذي يفصل بالشكل الملائم مع موقف الأسرة ونظرتها للمرأة … نعم لقد دفعت الفتيات ثمن دِيَة آبائهن المسجونين… ودفعت الأخريات ثمن شراب كحول آبائهن وأخونهن، ومنهن من دفع أيضاً ثمن قضايا لا تمت لهن بصلة تسببت بحرمانهن من التعليم وتزويجهن مبكراً..! ستظل المرأة تدفع ضريبة أنها امرأة من أجل إشباع أنانية الجنس الآخر طالما لم تنتصر لنفسها، سيستمر انتزاع رغيف الخبز من يدها لتجوع وتشبع الأخرين.
ماذا لو تخيلنا معا تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة؟ يصبح الرجل صاحب القضية، وعليه تظهر تاريخ الحركة الرجولية المطالبة بالمساواة مع حقوق المرأة وإلغاء كافة أشكال التمييز ضد الرجل للحصول على فرص التعليم والعمل الجيد، ماذا لو كان الرجل ضحية للعنف والتحرش والاغتصاب؟ حيث يصبح الرجل هو الحلقة الأضعف بوجود المرأة، وتبدأ الدول بتنظيم المؤتمرات والندوات للدعوة إلى تحرير الرجل ومساواته بالمرأة، وتصاغ الاتفاقيات الدولية لمناصرة الرجل وحمايته قانونياً والنهوض بهِ. كيف ستتعامل المرأة مع تاريخ هذه الحركة النضالية؟ هل ستستمر في قهر الرجل واضطهاده؟ هل ستمارس عليه الوصايا؟
وفي سياق ما سبق فقد طرح الدكتور حسين المحادين سؤالاً، وهو: لماذا تعيد المرأة عبوديتها في المجتمع؟ كما أكدت الكاتبة النسوية بيتي فريدان” على المرأة أن تسأل نفسها: من أنا؟ وماذا أريد من هذه الحياة؟ دون شعور بالذنب إن لم تقتصر الإجابة على زوجها وأطفالها فقط”، وفي البحث عن إجابة ماذا يعني أن تكوني امرأة؟ قالت الأديبة فوزية الزواري:” هو أن أكون عينًا يقظة على العالم، أن أكون الوهج المتحرك لحقيقة لم تقطع خيوطها مع أسرار أصل الأشياء. هو أيضاً تلك الحصة من الجمال والرقة التي تمنح الإنسان هشاشيه أزلية. وبالطبع أن أكون امرأة هو أن أكون مكملة لنصف الدنيا. نصف كل شيء: الرجل … الحياة … نصف لا يمكن أن يوجد شيئاً أو أن ينتصب على ركائزه دون الآخر. فبدون المرأة لا معنى للأشياء ولا توق للتناغم”.

ومن هنا أكتب هذه الرسالة إلى ” المرأة أم الإنسان”… والمرأة التي عبرنني بمشهد طفلة … مراهقة … عزباء … متزوجة … مطلقة … وأرملة ومسميات أخرى من معجم التمييز النوعي في المجتمع … إلى المرأة تحتِ خمارها الأسود وعباءة فضفاضة تدسُ جسدها كخطيئة أبدية وتجر خلفها ذاكرة أنثى مطموسة … إلى المرأة المضطهدة المنسحبة في الدفاع عن حقها في الحياة … إلى المرأة الخائفة من نفسها ومن كلٍّ شيءٍ … إلى المرأة الحزينة دائمًا الهاربة من المجتمع إلى أنفسها … إلى المرأة المتشيئة وقد وضعت على طاولة كمزهرية منسية … إلى المعنفة لسنوات طويلة دون أن تنبسَ بكلمة متكأه على ضمادة الأيام لجراحها وكسورها وحروقها … إلى المرأة المقهورة … إلى المرأة المهجورة …
انهضِي وانتصرِي لنفسكِ …!

الدِيَة: ما يُعْطى عائلةَ المقتول من مالٍ مُقَابل النَّفْس المَقْتولة.

تنويه: الآراء المعبر عنها في هذا المقال هي للمؤلف/ ـة ولا تعبر بالضرورة آراء الجمعية