الذات الخاضعة

أسعدتني قدرة الوسائط الإعلامية العُمانية الحديثة على بث أصوات وقضايا لم نعتد عليها من قبل، فدار حولها شد وجذب، رغم أنّ أغلب الأصوات جاءت متشنجة، وكانت رغبتها في التشويه أكثر سطوعا من رغبتها في الفهم. حدث هذا عقب نشاط غير مسبوق محليا في الجدل حول عن “مصطلح النسوية”، بين من يجعله المنقذ لحياة النساء وبين من ويجعله الفكر الآثم.


فتساءلتُ: لماذا تخشى المجتمعات فكرة “النسوية” عندما تُقدم نفسها على أنّها عادلة وبعيدة عن التنميط الجندري!
أكثر ما قد يجعلك تغلي، هو أن يتم إجهاض تاريخ طويل من النضال النسوي، نشأ دفاعا عن الظلم الذي كابدته المرأة منذ قرون، فيأتي من ينسفه بجهله الشديد، بل وتكون المرأة في الصفوف الأولى لتقول: “لقد اكتسبتُ كل شيء ولم يعد ثمّة ما ينقصني!”، بالتأكيد من حقها أن تشعر بهذا الرضا، لكن دون أن تنتابها الرغبة في تدمير ما تسعى المرأة الأخرى إليه من شغف وطموح ورغبة في حياة أفضل، من دون أن تكون هنالك حملة تشويهية تُلصقُ تُهما جاهزة باعتبار “النسوية” حراكا متطرفا!


المرأة انسان مكتمل جسديا وعقليا، وليست كائنا معطوبا، تحتاج إلى أمير يحلُّ كل مشاكلها كما روجت قصص “ديزني” من قبل!، لذا علينا أن نعي أولا أنّ النسوية لا تُسيّرها فكرة واحدة، وإنّما عدة أفكار وفلسفات. قرأتُ ذات مرّة عن أقدم احتجاج نظمته نساء روما ويعود إلى 200 سنة قبل الميلاد، احتجاجا ضد قانون “أوبيا” الذي يمنعُ النساء من امتلاك بعض السلع الثمينة كالذهب. وفي القرن الثامن عشر رأت الفيلسوفة ماري وولستونكرافت، “أن المرأة ليست أقلّ شأنا ولكن ينقصها التعليم”، أمّا نساء الثورة الفرنسية فقد تمكن من انتزاع مكتسبات سياسية مُهمة عندما طالبن لأول مرّة بحق الانتخاب، وقد هزت حملة “ME TOO” العالم، وحركت الكثير من الأصوات النسائية الصامتة حول قضايا التحرش وامتد صداها إلى الوطن العربي، مما يعني أن جوهر النسوية قائم على تبديد الظلم الواقع على النساء، وليس هدم الأسر والمجتمعات! وإن خرجت أصوات ناتئة ومتطرفة، فذلك ما يشذ عن القاعدة وليس القاعدة .


ثمّ من قال أنّ النسوية تدعو لكراهية الرجل والتخلي عنه؟ ولكنها بالتأكيد ستتخلى عمن يعيش على مبدأ “سي السيد”، فمن يخاف من “النسوية” يخاف على سلطته المتوهمة. أتذكر الكاتبة الأمريكية فاليري سولاناس، التي صدّرت خطابا تدعو فيه لكراهية الرجل، والتي بالتأكيد نختلف معها، ولكن بالعودة لقصة حياتها وتعرضها للاغتصاب من قبل والدها السِكير وهي طفلة، سنعرف أنّ الطفولة المتوحشة تبرر صوتها الانتقامي. من جهة أخرى علينا نعي أنّ النسوية لم تنشأ من فراغ بل لأنّ النساء كابدن قدرا مُذهلا من الظلامية، فالكاتبة سوزان سونتاج تنازلت عن كتابها “فرويد: عقل الأخلاق” لزوجها فقط لتحظى بأمومة طفلها، واحتاج الأمر إلى 60 عاما لكي تُكشف الحقيقة. كما أنّه كان من الصعب على ماري شيلي أن تضع اسمها على غلاف روايتها “فرانكشتاين” في عام 1818، رغم نجاحها الباهر، فمن سيصدق أن تكتب امرأة رواية من ذلك النوع!


وإلى النساء اللواتي ينظرن للحياة من منظار وردي أقول: المرأة العُمانية لا تحتاج إلى “يوم” تُقدم لها فيه الورود والشوكولاتة، وإنّما تنتظر أن يُعاد النظر في الكثير من القضايا التي ما زالت تميزها عن الرجل، بعضها قانونية وبعضها بسبب الأعراف الاجتماعية، فكم من الفتيات ضيعن فرص ذهبية للدراسة في الخارج بسبب أوهام جاهزة حول حاجتها لمن يحميها؟ ولماذا لا تمرر المرأة الجنسية لأولادها عند زواجها بالأجنبي؟ لماذا تكون ساعة الرضاعة رهن موافقة رب العمل وليست قانونا أصيلا؟ لماذا لا يُجرم ختان الإناث؟ ولماذا تكون “دية” المرأة نصف “دية” الرجل وكأن روحها أرخص ثمنا؟ بعض النساء يجبرهن الأزواج على الانجاب ولا طاقة لهن على ذلك ولا رغبة، وكان ينبغي أن يكون قرارا مشتركا بين طرفين! ولماذا تُخفف العقوبات على الجُناة الذكور في قضايا الشرف؟ وماذا عن تكافؤ فرص التوظيف بين الجنسين..الخ


لا يمكننا حصر دور المرأة في البيت وتربية الأبناء، رغم أننا لا نقلل من شأن “ربّات المنازل”، فيما لو كان هذا خيارهن، إلا أنّ الاستقلالية المادية تعني بالضرورة الاستقلال بالرأي، فالكثير من النساء اللواتي يقبلن العنف اللفظي والجسدي، يكون الرجل هو مصدر المال الوحيد، ولذا يفقدن الحماية والمؤازرة ويفضلن إخفاء الأمر.. لكن الأكثر بؤسا هو أن تكون المرأة مُستقلة ماديا، وليست مستقلة حتى باختيار لون ملابسها!


سيمون دي بوفوار في كتابها “الجنس الآخر” توازي بين مصير الذات الخاضعة للاستعمار وبين مصير النساء، ولذا عندما تتعرض المرأة للعنف والتحرش لا ينبغي أن نزيحها من مكان عملها أو دراستها، وإنّما نزيح ما قد يسبب لها الخطر. أمّا ادعاء أنّ هذه الأفكار، تُغرر بالفتيات الصغيرات وتدفعهن للانتحار، فهذا يُقصقص أجنحة الحقيقة، لأنّ فعل الانتحار أكثر تعقيدا وغموضا مما نظن!

هدى حمد ، إعلامية وكاتبة عُمانية